
كتب ناجي الغزي.. في خضم المشهد الإقليمي المتقلب الذي تعصف به التحولات المتسارعة في ميزان القوة والتهديدات المتصاعدة في البحر الأحمر ومحيطه، تتبلور ملامح صراع غير تقليدي بين الولايات المتحدة الأمريكية وجماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن.
صراع لم تتوقعه واشنطن بهذه الحدّة، ولم تكن مستعدة لتحمل كلفته الاستراتيجية بهذا الشكل. فمنذ اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر 2023، بدأ الحوثيون بتوسيع معادلتهم العسكرية لتشمل ساحة البحر الأحمر وخليج عدن، معلنين بذلك انخراطهم في محور المقاومة بشكله الأكثر فاعلية، وهو ما نقلهم من لاعب داخلي محدود إلى فاعل إقليمي مؤثر يصوغ معادلات التهديد والردع.
لقد فشلت الضربات العسكرية الأمريكية والبريطانية المتكررة منذ يناير 2024 في كبح جماح الحوثيين أو الحد من قدراتهم، بل على العكس، زادت هذه الهجمات من صلابتهم السياسية والعسكرية، ورسّخت صورة جديدة عنهم كقوة مقاومة قادرة على تهديد ممرات الملاحة العالمية التي تمثل شرياناً حيوياً للتجارة الدولية.
تبيّن لواشنطن أن خياراتها في اليمن ليست فقط محدودة، بل باتت مكلفة ومرتبكة.
فالحوثيون نجحوا في فرض معادلة ردع بحري حقيقية، مستخدمين مزيجاً من الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية البحرية، وهو ما أحرج الولايات المتحدة أمام حلفائها وأصاب هيبتها العسكرية في مقتل.
أمام هذا الواقع الجديد، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة لإعادة النظر في أولوياتها الاستراتيجية، خصوصاً بعدما تبيّن أن الجبهة اليمنية تستهلك قدراً كبيراً من الاهتمام والموارد دون جدوى واضحة.
فبينما كانت واشنطن تركز جهودها على احتواء النفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادئ ومواجهة روسيا في الساحة الأوروبية، فوجئت بجبهة جنوب البحر الأحمر تتحول إلى ساحة استنزاف متصاعدة. وقد بدا واضحاً أن البيت الأبيض لا يملك استراتيجية متماسكة للتعامل مع الحوثيين، لا سياسياً ولا عسكرياً، وهو ما دفعه إلى قبول خيار التفاوض غير المباشر من بوابة سلطنة عمان.إسرائيل من جانبها تنظر بقلق بالغ إلى أي تقارب أمريكي مع الحوثيين.
فبالنسبة لها، يمثل الحوثيون تهديداً وجودياً متنامياً، لا بسبب قدراتهم العسكرية فحسب، بل لكونهم أحد أذرع محور المقاومة الذي تقوده إيران.
كما أن الطابع العقائدي والديني للحوثيين، إلى جانب خطابهم المعادي لإسرائيل بشكل حاد، يجعلهم غير قابلين للاحتواء أو التهدئة من وجهة النظر الإسرائيلية. ومن هنا ينبع الاعتراض الإسرائيلي على المفاوضات المحتملة في مسقط، والتي ترى فيها تل أبيب نوعاً من الاستسلام الأمريكي أو على الأقل تراجعاً في الضغط السياسي والعسكري على خصوم إسرائيل الإقليميين.
لكن الولايات المتحدة تدرك أن أدواتها التقليدية لم تعد فعالة في هذه المنطقة، خصوصاً بعد أن أظهرت المعارك الأخيرة أن الحوثيين باتوا يمتلكون منظومة من الردع المتكامل يصعب كسرها دون التورط في حرب شاملة غير مضمونة النتائج. كما أن واشنطن بدأت تلمس التغير في البيئة الدولية، حيث لم تعد قادرة على فرض سيطرتها الكاملة على الممرات البحرية، ولا حتى على حلفائها التقليديين في الخليج الذين بدأوا ينتهجون سياسات خارجية أكثر استقلالاً.
الموقف الأمريكي اليوم يميل نحو البراغماتية، فالتفاوض مع الحوثيين لا يُنظر إليه كخضوع بل كمحاولة لاحتواء تهديد استراتيجي متنامٍ، وتجنب انفجار إقليمي أوسع قد يشعل المنطقة من جديد.
في المقابل، يحاول الحوثيون فرض شروط تفاوض من موقع المنتصر، معتمدين على توازن ردع فعلي على الأرض، وثقة متزايدة في دعم شعبي وإقليمي متسع.
الصراع بين أمريكا والحوثيين، في جوهره، لم يعد مجرد مسألة أمن ملاحي أو رد فعل على حرب غزة، بل أصبح اختباراً لمعادلات القوة الجديدة في المنطقة، وإعادة تشكيل لخارطة النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية.
أما إسرائيل، فهي تقف عند مفترق طرق حرج، إذ تخشى من أن تقود أي تسوية أمريكية مع الحوثيين إلى ترسيخ شرعيتهم ودمجهم في معادلات الإقليم، وهو ما يعني بالنسبة لها قبولاً ضمنياً بمحور المقاومة كفاعل شرعي، وهذا ما تسعى تل أبيب إلى منعه بكل الوسائل الممكنة.
هكذا يبدو المشهد في مسقط أكثر من مجرد مفاوضات؛ إنه اختبار لقدرة واشنطن على التكيف مع نظام إقليمي جديد يتشكّل من رماد الهيمنة التقليدية، وتحول الحوثيين من جماعة محلية إلى لاعب إقليمي يفرض إيقاعه على القوة الأعظم في العالم.