
كتب محمد علي الحيدري..بين مدافع خفت صوتها مؤقتاً، وحوارات ما زالت حذرة، تقف السويداء عند مفترق بالغ الحساسية.
فبعد أيام من اشتباكات عنيفة بين مجموعات محلية وقوات أمنية تابعة للنظام السوري، عاد الهدوء النسبي، لكن دون أن يبدد القلق من القادم. فالسويداء، بما تمثله من رمز ديني وتاريخي للطائفة الدرزية، ومن ثقل جغرافي جنوب البلاد، تتحول تدريجياً إلى ساحة اختبار لمعادلات القوة والانقسام، ولربما لإعادة رسم خارطة الجنوب السوري برمّته.
التهدئة التي أُعلنت منتصف تموز ليست نهاية الأزمة، بل استراحة في قلبها. فالعوامل التي فجّرت المواجهة لا تزال قائمة: تهميش مزمن، وضع اقتصادي متردٍ، فراغ أمني تستغله المجموعات المسلحة، وتناقض في الولاءات بين من يطالب بالاندماج ضمن دولة عادلة، ومن يشعر بأن العزلة أصبحت قدراً مؤقتاً على الأقل.
أمام هذا المشهد، يمكن رصد أربعة سيناريوهات متنافسة تشقُّ طريقها في الواقع وفي الأذهان:
أولاًـ تثبيت التهدئة وبناء مسار تفاوضي محلي: في هذا السيناريو، تُستثمر الهدنة الراهنة كمدخل لحوار محلي ترعاه مشيخة العقل، وتشارك فيه أطراف من السلطة، بحثاً عن تسوية تؤمّن مطالب الأهالي الخدمية والأمنية مقابل الحفاظ على وحدة الدولة. قد لا يفضي ذلك إلى حلول جذرية، لكنه يضمن استقراراً تدريجياً ويمنح دمشق فرصة لإعادة بناء الثقة جنوباً. وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً إن التزمت الأجهزة الأمنية بضبط النفس، وامتنعت عن محاولات الاختراق أو الانتقام.
ثانياً ـ تفجّر محدود بفعل خروق أو تصعيد موضعي: يبقى خطر العودة إلى المواجهة قائماً إذا ما بادرت قوات أمنية أو مجموعات تابعة للنظام إلى استفزاز مناطق معينة، أو محاولة إعادة السيطرة بالقوة. في هذه الحال، قد ترد الفصائل المحلية بتحركات مضادة، ما يعيد دوامة العنف إلى الواجهة، وإن في نطاق محدود. وقد يُستخدم هذا التوتر المحدود كورقة ضغط تفاوضية من الطرفين، لكنه يهدد بانزلاق أكبر إذا لم يُحتوَ سريعا.
ثالثاً ـ عسكرة كاملة وتحول الجبل إلى جبهة مفتوحة: السيناريو الأخطر يتمثل في انهيار شامل للتهدئة، يترافق مع دخول الجيش أو أجهزة الأمن بقوة إلى عمق السويداء، أو اتساع دائرة المواجهة لتشمل فصائل أكثر تسليحاً وتنظيماً. في هذه الحال، تتغير قواعد اللعبة: تتوسع رقعة النزوح، وتتفكك السلطة المحلية، وقد تُطلق دعوات إلى الحماية أو التدخل، سواء من أطراف إقليمية أو دولية. هنا يظهر العامل الإسرائيلي بشكل أكثر فجاجة، إذ تترقّب تل أبيب أي تصدع في الجنوب لتُحوّله إلى فرصة أمنية.
رابعاً ـ تدويل ناعم للملف عبر غطاء إنساني أو أممي: في حال طال أمد الجمود، وارتفعت الأصوات المطالبة بحماية الأقليات، قد تتقدم أطراف دولية – باسم الحماية أو الحقوق – للدفع بتدويل تدريجي للوضع في السويداء. هنا، يعود العامل الصهيوني مجدداً، ولكن هذه المرة من بوابة “المظلومية الدرزية” التي قد تستغلها تل أبيب لتبرير تدخلها غير المباشر، وربما لتغذية نماذج مشابهة للكانتونات التي نشأت في تجارب أزمات أخرى.
المفارقة أن كل هذه السيناريوهات، رغم اختلاف مآلاتها، تتقاطع في نقطة مركزية: غياب الحل السياسي الوطني الحقيقي. فلا الدولة قدمت نموذجاً جامعاً قادراً على دمج التنوع وإدارة المطالب بفعالية، ولا القوى المحلية اتفقت على رؤية موحدة، ولا الإقليم – من إيران إلى إسرائيل – ترك الجبل لحاله.
تبقى السويداء معلقة بين مسارين: إما أن تكون بوابة لتصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع، ضمن رؤية عادلة ولامركزية منضبطة، أو تتحول إلى ثغرة جديدة في الجغرافيا السورية تُستثمر خارجياً وتُستهلك داخلياً. وما لم يُحسم الخيار قريباً، فإن التهدئة ستبقى عنواناً مؤقتاً لحرب مؤجلة.