
كتب جعفر عبد الامير لبجه..في مشهد يعيد تشكيل خريطة النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، بدأت الولايات المتحدة بخطوات حقيقية نحو الانسحاب من قواعدها العسكرية في العراق، لا سيما في بغداد والأنبار، وفق اتفاق ثنائي يُرتقب اكتماله بحلول نهاية عام 2026.
هذا الانسحاب الذي طالما كان مطلبًا داخليًا لفصائل مسلحة وشرائح من الشارع العراقي، لا يأتي في فراغ، بل يفتح الباب أمام مرحلة معقدة، تتقاطع فيها اعتبارات السيادة مع تحديات الأمن، وتتصادم فيها آمال الدولة مع مصالح الجماعات. بخلاف الانسحاب الكامل الذي جرى عام 2011، لا يبدو أن الانسحاب الجاري حاليًا يهدف إلى فك الارتباط، بل إلى إعادة تعريف العلاقة.
فالمفاوضات الجارية بين بغداد وواشنطن أسفرت عن خارطة طريق تنص على تقليص الوجود العسكري الميداني، مع الحفاظ على مستوى من التعاون في مجالات التدريب والدعم الفني والاستخباراتي.
الهدف المعلن هو “نقل المسؤولية الأمنية كاملة إلى العراق”، لكن السؤال الجوهري يبقى: هل بات العراق مستعدًا فعلاً لهذا الانتقال؟.رغم الانخفاض النسبي في العمليات الإرهابية، لا تزال فلول تنظيم “داعش” الارهابي تنشط في بعض المناطق الهشة، لا سيما في أطراف الأنبار ونينوى وصلاح الدين.
الخشية من عودة التنظيم مستغلاً أي فراغ أمني ليست نظرية، بل واقعية، في ظل فجوات ما زالت قائمة في قدرات القوات العراقية، لا سيما في مجالي الطيران والمراقبة الجوية.هنا، تبرز الحاجة الماسة إلى استمرار الدعم التقني الغربي، ولو بصيغ غير قتالية. فالانسحاب من القواعد لا يعني الانسحاب من المعادلة.الفراغ، في السياسة كما في الجغرافيا، لا يدوم. ومع انسحاب القوات الأمريكية، تتحرك قوى داخلية لسد هذا الفراغ عسكريًا أو سياسيًا.
هذه القوى التي لطالما رفعت شعار “إخراج المحتل”، تبدو الآن في موقع المتحفّز لتوسيع نفوذها .وفي المقابل، يُبدي السنة والأكراد توجسًا من تداعيات الانسحاب، خصوصًا إذا أُفرغت الساحة من الضامن الدولي، دون توفر بدائل تضمن التوازن الوطني في بلد كثير الطوائف وقليل الثقة.
ينظر كثيرون إلى انسحاب القوات الأجنبية على أنه انتصار للسيادة الوطنية، وهذا أمر مشروع ومطلوب. لكن السيادة، في السياق العراقي، لا ينبغي أن تظل حبيسة الشعارات. بل يجب أن تُترجم إلى قدرة ذاتية على ضبط الأمن، وحوكمة فعالة تضمن توازن السلطة، واستقلالية القرار بعيدًا عن المحاور الإقليمية.السيادة الحقيقية لا تُبنى على فراغ، بل على مؤسسات قوية، وتوافق داخلي، ورؤية استراتيجية طويلة الأمد.
إن العراق، وهو يستعد لوداع مرحلة عمرها أكثر من عقدين من الوجود العسكري الأمريكي، يقف اليوم أمام مفترق حساس. فإما أن يكون هذا الانسحاب بداية لاستعادة الدولة لمقاليدها، أو أن يتحول إلى لحظة فراغ تُملأ بنفوذ غير خاضع للمساءلة، فتتكرر الدائرة نفسها: انهيار، تدخل، إعادة بناء ثم انهيار آخر.
الفرصة متاحة، وإن كانت محفوفة بالتحديات. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يلتقط العراق هذه اللحظة لصياغة مستقبله بأدواته، أم يُترك مرة أخرى رهينة لمعادلات الخارج وأهواء الداخل؟.