
كتب العلاء صلاح عادل.. في زمنٍ تتسارع فيه التغيرات العالمية وتتعاظم فيه التحديات البيئية والاقتصادية والتكنولوجية، لم يعد النفط أو الغاز أو المعادن النفيسة هي الثروات الحقيقية التي تراهن عليها الأمم لصناعة مستقبلها، بل أصبحت العقول البشرية والجيل الناشئ من الأطفال والشباب هم الثروة الأهم والأبقى، والثروة الوحيدة التي لا تنضب، ولا تتحكم فيها الأسواق العالمية أو الظروف السياسية.
لقد أثبتت تجارب الدول المتقدمة أن الاستثمار في الإنسان، وتحديدًا في تعليم الأجيال الناشئة وتأهيلهم، هو السبيل الوحيد لتحقيق التنمية المستدامة، وبناء مستقبل مستقر ومزدهر. فما فائدة الثروات المدفونة في باطن الأرض إذا لم نحسن استثمار الثروة الحية التي تسير فوقها؟ فالنفط مورد قابل للنفاد، محدود بالعمر، ومتقلب بالعوامل الاقتصادية، أما أبناء الوطن فهم القوة التي يمكنها أن تبتكر وتُنتج وتُغير وتبني، وهم القادة الذين سيقودون السفينة في بحر المستقبل.
وتدل المؤشرات الدولية على أن الدول التي تولي التعليم اهتمامًا كبيرًا، هي الأسرع نموًا والأكثر استقرارًا. فعلى سبيل المثال، احتلت فنلندا مراتب متقدمة لسنوات في تصنيف جودة التعليم العالمي، بسبب فلسفة تعليمية تركز على التفكير النقدي والابتكار، بينما سجلت سنغافورة معدلات نمو مرتفعة رغم قلة مواردها الطبيعية، بفضل نظام تعليمي صارم يربط بين المناهج وسوق العمل. كوريا الجنوبية أيضًا أصبحت قوة صناعية عظمى، من خلال استراتيجية “التعليم أولًا” التي أدت إلى تطور شركاتها العملاقة مثل “سامسونغ” و”هيونداي”، التي يقودها خريجو جامعات محلية صُنفت بين الأفضل عالميًا.
أما في منطقتنا العربية، فالدول التي بدأت تتبنى رؤى تنموية طويلة الأجل مثل “رؤية السعودية 2030” و”استراتيجية الإمارات 2071” أدركت بوضوح أن التعليم هو المحور الذي تدور حوله باقي المشاريع التنموية، فاستثمرت في تطوير البنية التحتية التعليمية، وتوسيع نطاق التعليم التقني والمهني، ودعمت المعلمين بالتدريب والتحفيز، ودمجت التكنولوجيا في الصفوف الدراسية عبر أدوات الذكاء الاصطناعي والمنصات الذكية.
ولا شك أن الاستثمار في الإنسان لا يقتصر على تطوير المناهج أو إدخال التقنيات الحديثة، بل يشمل بناء بيئة تربوية متكاملة. فالأسرة تشكّل اللبنة الأولى في تكوين الطفل، ومن هنا تبدأ مسؤولية زرع القيم، وغرس حب التعلم، وتعزيز الفضول الفكري. وتليها المدرسة التي يجب أن تتحول من مركز لنقل المعلومات إلى ورشة لصناعة الأفكار وتنمية الشخصية المتكاملة: فكرًا، ووجدانًا، وسلوكًا. ثم يأتي دور الإعلام في تقديم محتوى يعزز القيم الإيجابية، ودور المجتمع المدني في توفير فرص غير صفية للنمو مثل المعارض العلمية، وأندية البرمجة، والمبادرات البيئية والاجتماعية.
ومن المهم أن نعيد النظر في أهدافنا التعليمية، بحيث لا تقتصر على منح الشهادات، بل تركز على تخريج مواطنين قادرين على التكيّف مع التغيرات، وعلى حل المشكلات، والعمل الجماعي، والتفكير النقدي. فالعالم يتغير بسرعة، وسوق العمل يشهد تحولًا نحو المهارات الرقمية واللغات الأجنبية وريادة الأعمال، بينما تتقلص الوظائف التقليدية. وتشير تقارير منظمة اليونسكو إلى أن نحو 65% من طلاب اليوم سيشغلون وظائف لم تُخلق بعد، ما يعني أن قدرتهم على التعلم الذاتي ستكون أهم من حفظهم للمعلومات.
إن الطفل الذي نُهمله اليوم، قد يكون هو من نحتاج إليه غدًا ليبتكر حلًا لأزمة وطنية، أو يطور لقاحًا لوباء عالمي، أو يقود مؤسسة أو يمثل الدولة في المحافل الدولية. إن صناعة الجيل تبدأ من اليوم، وهي مسؤولية تشاركية، تحتاج إلى رؤية، وتمويل، وإرادة سياسية، واستمرارية. فكل طفل يولد مزودًا ببذرة عبقرية، والفرق بين أمة وأخرى هو كيف ترعى هذه البذرة: هل تحتضنها بالتعليم والدعم والتشجيع؟ أم تتركها للتيه والضياع؟
وفي ظل التحديات الكبرى التي تواجهنا، من تغير مناخي وذكاء صناعي وجغرافيا سياسية متقلبة، لن تستطيع الدول الصمود ما لم تكن تملك ثروتها الحقيقية: الإنسان المتعلم، والمواطن الواعي، والشاب المنتج. وإذا كنا نفاخر بمخزوننا من الموارد الطبيعية، فالأجدر بنا أن نفخر بقدراتنا البشرية ونتائجنا التعليمية وإنجازات شبابنا في ميادين البحث والابتكار. فالعقل المؤهل يستطيع أن يعيد بناء ما تهدم، ويصنع الفرص من قلب الأزمات، ويُحرك عجلة التنمية حتى في أصعب الظروف.
لقد أثبتت جميع التجارب والتقارير الدولية والإقليمية أن التعليم ليس ترفًا ولا خيارًا ثانويًا، بل هو حجر الأساس لكل نهضة حقيقية. وإذا كانت الثروات الطبيعية تمنح الدول القدرة على الانطلاق، فإن الإنسان هو من يمنحها القدرة على الاستمرار والابتكار والتطور. ومن هنا فإن بناء الإنسان، وتأهيل الجيل الجديد، لا يجب أن يكون مجرد بند في ميزانية الدولة، بل هو جوهر سياساتها، ومركز رؤاها الاستراتيجية، وأساس أمنها القومي الشامل.
نحن بحاجة إلى رؤية تربوية وطنية طويلة الأمد، تتجاوز الحدود التقليدية للمناهج والحصص الصفية، وتنظر إلى التعليم باعتباره مشروعًا حضاريًا، تشترك فيه مؤسسات الدولة كافة، من وزارات التعليم والاقتصاد إلى الإعلام والثقافة، وصولًا إلى الأسرة والمجتمع. نحتاج إلى أن نبني جيلًا يمتلك أدوات العصر، يُجيد لغات العالم، ويفكر بطريقة علمية، ويعمل بروح الفريق، ويحمل في قلبه قيمًا راسخة من الانتماء والعدل والمواطنة.
إن العالم اليوم لا يحترم الدول الغنية بثرواتها الطبيعية بقدر ما يحترم الدول القادرة على إنتاج المعرفة وتصدير الحلول. الدول التي تصنع تقنياتها، وتطور علومها، وتدير مؤسساتها بكفاءات محلية مدربة وواعية. وهذه المكانة لا تتحقق إلا بتعليم نوعي، شامل، عصري، يعكس تطلعات الأجيال ويستجيب لحاجات الحاضر وتحديات المستقبل.
ولذا فإن كل دينار يُستثمر في تعليم طفل اليوم، هو استثمار في أمن واقتصاد وكرامة الوطن غدًا. وكل دقيقة نقضيها في تطوير مناهجنا، وتحفيز معلمينا، وتمكين طلابنا، هي لبنة في صرح مستقبل أقوى وأكثر إشراقًا. ولن يكون النفط أو الذهب هو ما يصنع تميزنا بين الأمم، بل العقول التي نزرعها اليوم ونرعاها بشغف وإيمان. فلنضع هذا الهدف نصب أعيننا: أن نُعدّ أبناءنا لا ليكونوا موظفين فقط، بل صُنّاع حضارة، وقادة تغيير، ومهندسي نهضة. فهم الثروة الحقيقية التي لا تنضب، والاستثمار الذي لا يخسر، والميراث الذي نتركه للأجيال القادمة، لا في خزائن الأرض، بل في عقول الرجال وقلوب النساء، الذين سيحملون الراية من بعدنا، ويواصلون مسيرة البناء.
وإذا كنا نطمح لأن يكون لنا مكانٌ مرموق في خريطة المستقبل العالمي، فإن هذا المكان لا يُشترى بالموارد، بل يُنتزع بالعلم، ويُحجز بالاجتهاد، ويُثبت بالأجيال الصاعدة. فلنؤمن إذن، قولًا وفعلاً، بأن ثروتنا الحقيقية هم أبناؤنا، لا ما نملكه من موارد، بل ما نُعده من عقول.