
كتب محمد وهاب عبود.. ثمة سلاح أشد فتكا من الرصاص والقنابل حاضر في سجلات التاريخ البشري الملطخ بالدماء، سلاح يزحف بصمت ينهش الأجساد ويفتك بالأرواح ببطء، إنه التجويع. فلطالما ارتبطت المجاعات في الأذهان بالكوارث الطبيعية، كالجفاف أو الأعاصير المدمرة، لكن الحقيقة التي يكشفها التاريخ بوضوح مؤلم هي أن الجوع غالبا ما كان أداة حرب سياسية ممنهجة، وجريمة مكتملة الأركان. إذ يصف ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية هذه المأساة بأنها “تجويع المدنيين عمدا كوسيلة قتال عبر حرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمّد عرقلة الإمدادات الإغاثية».
هذا التعريف القانوني يمنح عدسة نقدية للنظر إلى الماضي، محولًا الجوع من مجرد نتيجة مؤسفة إلى “فعل إجرامي مقصود”، مما يغير جذريا الفهم للمسؤولية التاريخية، ويكشف عن وصمة عار أخلاقية وجنائية لا يمكن محوها.
التجويع اليوم سلاحٌ باردٌ بيد الكيان المحتل تجاه الشعب الفلسطيني. فالكيان يحاكي ويكرر أبشع فصول تاريخ الدول الاستعمارية، حيث كانت وما زالت تلك الدول تستخدم التجويع أداةً لكسر إرادة الشعوب، وإخماد جذوة النهوض، وتمهيد الطريق للإبادة الجماعية والتهجير.
تتكرر المأساة على يد الكيان الغاصب الذي نشأ في رحم هذا الاستعمار، وورث عنه ممارساته البشعة، وحمل مشعل إجرامه إلى زمننا الحاضر. تلك الدول لا تجوّع فقط لتُخضِع، بل لتُمحِي، لتمحو تاريخا وحضارة، ولتحوّل الأوطان إلى صحراء من الخراب، لا يتبقى فيها سوى أشباحٌ تُصارع من أجل لقمة عيشها. إنها جريمة مزدوجة، تجويع وإبادة، يُكتب فصلها الأخير بدعمٍ صامت أو علني من قوى عظمى تُمثل “النظام العالمي” الذي يغض الطرف عن هذه الجرائم، أو يبررها تحت ذرائع واهية.
والأدهى من ذلك أن الكيان يتلقى دعما مفتوحا من قوى عالمية ترفع شعارات حقوق الإنسان والعدالة، لكنها في الواقع تُغذي آلة التجويع والتهجير، وتُمدّها بالغطاء السياسي والعسكري. هذا التواطؤ الدولي يحوّل الجريمة من فعل محلي إلى مسؤولية عالمية، ويجعل من صمت المجتمع الدولي مشاركةً مباشرة في هذه المأساة، التي تُعيد كتابة تاريخ الظلم بدموع الجوعى وأنّاتهم. آليات التجويع “الإسرائيلية” تكتيكات لا تموت.
مصادرة الأراضي الزراعية بحجج واهية كانت ولا تزال تكتيكا أساسيا. في فلسطين، تم مصادرة أكثر من 100 ألف دونم لأغراض “أمنية” تحولت لمستوطنات، وصُنفت 87 بالمئة من أراضي القدس المتبقية كـ”أراضٍ خضراء” لمنع البناء الفلسطيني. هذه التكتيكات لا تهدف فقط إلى حرمان السكان من الغذاء، بل إلى تدمير قدرتهم على الإنتاج الذاتي، مما يجعلهم معتمدين تماما على القوة المحتلة أو على مساعدات يمكن التحكم بها.
الحصار الكامل على غزة منذ أكتوبر 2023، حرم 2.3 مليون فلسطيني من الماء والغذاء والوقود. انخفض عدد شاحنات المساعدات بشكل كارثي من 500 شاحنة يوميا إلى 70- 100 شاحنة فقط. استهداف موظفي وعمال الإغاثة الأمميين لعرقلة وصول المساعدات، حيث استشهد 150 منهم، وتحويل شاحنات المساعدات إلى “مصائد” لاستهداف المدنيين الجوعى، ما يوضح أن التجويع ليس مجرد نتيجة للحصار، بل هو هدف بحد ذاته. وثمة قصص من سجلات الظلم والتجويع كأداة إبادة وإخضاع .
استهدفت العقوبات الاقتصادية الأمريكية على العراق، والتي فُرضت بعد اجتياح الكويت عام 1990، قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية والزراعة والبنية التحتية، مما أدى إلى تدهور كارثي في الظروف المعيشية. تسبب الحظر في نقص حاد في الغذاء والدواء، مما أدى إلى انتشار سوء التغذية والأمراض بين الأطفال بشكل خاص. على الرغم من برنامج “النفط مقابل الغذاء” الذي كان يهدف إلى تخفيف المعاناة، إلا أنه لم ينجح في توفير الاحتياجات الأساسية للسكان بشكل كامل. وقد تسببت تلك العقوبات في وفاة مئات الآلاف من العراقيين، وشكلت واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث، تاركة آثارا اجتماعية واقتصادية عميقة لا تزال قائمة حتى اليوم.
وكانت سياسة التجويع الفرنسية في الجزائر “من أبشع ما طبقته الإدارة الاستعمارية الفرنسية”، ولم تكن مجرد عواقب حرب، بل شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية. لقد عمد المستعمرون إلى تجريد الشعب من مصادر رزقه ونهب ممتلكاتهم وحرق محاصيلهم. صرح الجنرال بيجو بوضوح أن تدمير مصالح السكان أمر ضروري، ويجب “تحطيم القرى، وقطع الأشجار المثمرة، وحرق وقلع المحاصيل الزراعية، وإفراغ المخازن”. كما تم تدمير مخازن الحبوب والمواشي مما قضى على عنصر حياتهم وتواصلهم.
لقد أدت هذه السياسات إلى مجاعات رهيبة أودت بحياة عائلات بأكملها، وتفشي أوبئة قاتلة مثل التيفوس، الذي كان يُعرف بـ”مرض الفقر والفقراء” . تجاوز عدد الوفيات ما خلفته الحروب والكوارث الطبيعية. هذا يوضح كيف كان التجويع جزءا لا يتجزأ من استراتيجية “الأرض المحروقة” التي تهدف إلى كسر إرادة المقاومة الشعبية وإخضاع البلاد للاستيطان الفرنسي.
كانت المجاعات سمة متكررة في شبه القارة الهندية تحت الحكم البريطاني، وأدت إلى مقتل أكثر من 60 مليون شخص في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين. لقد كان الاقتصاد الهندي مكتفيا ذاتيا قبل الحكم البريطاني، لكن المستعمرين البريطانيين حولوه لخدمة مصالحهم، مما أدى إلى “استنزاف ثروة الهند، فرضت ضرائب عقارية باهظة، وحُرم الفلاحون من محاصيلهم، ومُنعوا من زيادة مخزونهم. كما أُجبر الفلاحون على زراعة المحاصيل النقدية مثل القطن والأفيون للتصدير، على حساب المحاصيل الغذائية الأساسية. هذا أدى إلى زيادة الاعتماد على الأمطار الموسمية وتفاقم الفقر. في المجاعة الكبرى 1876- 1878، التي أودت بحياة حوالي 8.2 مليون شخص.
إن المجاعات التي شهدتها الشعوب المُستعمرة لم تكن قضاء وقدرا، بل كانت نتاجا لقرارات سياسية واقتصادية متعمدة تهدف إلى السيطرة والإخضاع. وتتجلى هذه التكتيكات اليوم في مناطق مثل السودان وغزة ، حيث يُستخدم التجويع كسلاح حرب. هذا النمط المتكرر من التكتيكات عبر إمبراطوريات مختلفة يؤكد أن التجويع لم يكن نتيجة عرضية، بل استراتيجية ممنهجة وفعالة لكسر إرادة الشعوب وإخضاعها.
إن التجويع يتجاوز مجرد السيطرة السياسية؛ إنه أداة قوية للهندسة الديموغرافية، تسعى لتقليل أعداد السكان الأصليين أو إجبارهم على النزوح، مما يسهل الاستيلاء على الأراضي وتوطين المستعمرين. إنه عملية “صناعة” معقدة ومتعددة الأوجه، تتضمن تدمير القدرة على الإنتاج، وقطع سبل الوصول إلى الغذاء، وتجفيف مصادر الدعم الخارجي. المجاعات التي يسببها الاستعمار لا تترك وراءها فقط دمارا ماديا وبشريا، بل تخلق أيضا إرثا من الصدمة والذاكرة الجماعية التي يمكن أن تتحول إلى وقود للحركات التحررية ومحفزا للعمل الإنساني الدولي.