العنف في سوريا.. أداة أم نهج؟

كتب عبد المنعم علي عيسى.. لا تكاد تخلو صفحات السوريين اليومية من حوادث القتل والخطف، الذي يتخذ أحيانا صفة”السبي” بكل ما يرمز إليه هذا المصطلح من دلالات، جنبا إلى أشكال أخرى من العنف الذي يستهدف” الأقليات” بالدرجة الأولى، وعلى مدى أشهر سبعة أعقبت سقوط نظام بشار الأسد.
يمكن القول أن العنف الذي استولدته هذه المحطة الأخيرة لا يمثل تعبيرا عن صراع ما قائم بين طرفين أو أكثر، بل هو أحادي الجانب، ومن يمارسه فئة تستقوي بالسلطة، ما يجعل من توصيف الفعل بـ”الإستباحة” أكثر واقعية، وهذا الأخير لا يبدو أنه نتاجا لـ”ميول انتقامية” ناتجة عن الأثر التراكمي للأحداث التي عاشتها البلاد ما بين 2011 – 2024 بقدر ما يرمز إلى نهج يجري تجييره بغرض للتعمية على الخلل العميق الحاصل في محاولات بناء الدولة الجديدة.
شكلت المجازر التي شهدها الساحل السوري شهر آذار المنصرم منعطفا كبيرا في مسار المحاولة سابقة الذكر، وهي كاشفة بشكل صارخ للخلل آنف الذكر أيضا، أما طريقة التعاطي معها فكانت فعلا من شأنه تعميق الصدع بدرجة تهدد “البنيان” برمته، والشاهد هو أن “لجنة تقصي الحقائق” بشأن مجازر الساحل التي تشكلت بمرسوم صادر عن رئيس الجمهورية يوم 9 آذار المنصرم لم تفض إلى أية نتائج تذكر برغم مرور أربعة أشهر على مباشرة أعمالها.
والجدير ذكره أن من المفترض أن تكون هذه الأخيرة قد رفعت تقريرها النهائي 9 تموز، إلا أن العديد من المؤشرات توحي بأن الفعل سيكون عرضة للتأجيل الذي سيكون الثالث من نوعه فيما لو حصل، ومن الواضح هنا أن تكرار عملية التأجيل ناتج عن حال من العجز، سيكون صعبا معها الإشارة بوضوح إلى مسؤولية هذا الطرف أو ذاك عن تلك المجازر، وهو أمر سوف يؤدي بالضرورة إلى تسارع دورة العنف من جديد، مع الإشارة إلى أن هذه الأخيرة لم تتوقف ما بعد آذار، وإن خفت وتيرتها، فقد وثق”المرصد السوري لحقوق الإنسان” مقتل “ 527 مدنيا حتى 21 حزيران”، مبينا أن الدوافع كانت في غالبيتها “ذات جذور طائفية وفق لما ذكره هذا الأخير في تقاريره، التي تحظى بقدر عال من المصداقية لدى السوريين، ولدى العديد من الجهات المعنية بالشأن السوري.
كشف تقرير لوكالة “رويترز” نشرته يوم 30 حزيران المنصرم عن إن “قادة عسكريين في وزارة الدفاع السورية أصدروا أوامر، ونسقوا عمل المجموعات المسلحة التي نفذت المذابح في الساحل شهر آذار الماضي”، كما أشار التقرير إلى مشاركة أكثر من “ 12 فصيلا مسلحا جميعهم كانوا منضوين تحت راية (هيئة تحرير الشام)”، كما ذكر التقرير أن “نصف تلك الفصائل على الأقل خاضع للعقوبات الدولية».
ومن المؤكد أن التقرير الذي احتوى على الكثير من المعطيات الأخرى التي لا تقل أهمية عما سبق ذكره، يشير بشكل غير مباشر إلى أن العنف الذي مارسته تلك الفصائل كان “ممنهجا”، الأمر الذي يمكن تلمسه من خلال كشف التقرير لهرمية القرار العسكري وطريقة انتقال الأوامر من أعلى إلى أسفل، وهذا يضع القيادة السورية أمام موقف محرج لن تستطيع تجاهله، لكن الثابت والخطر في آن، هو أن الأخيرة ترى أن بالإمكان تجاوز الكثير من التداعيات التي يمكن للتقرير أن يخلفها عن طريق “دفع فواتير” خارجية حتى ولو كانت باهظة الأثمان، والأخيرة من دون شك ستكون كما “النخر” في بنيان مجتمع بات من الهشاشة بحيث لا يستطيع معها تحمل المزيد الذي قد يدفع بتركيبته للإنفجار.
الآن ما بعد تقرير “رويترز” قد يكون السيناريو الأكثر ترجيحا أن تذهب”لجنة تقصي الحقائق” آنفة الذكر إلى تحميل الفصائل المدعومة من تركيا، مثل الفرقة 26 (التي تضم فصيلي العمشات والحمزات) وفصيل “سليمان شاه” و”الحزب التركستاني الإسلامي” في محاولة يمكن أن تكون على مبدأ “التضحية بالخراف لحماية الثيران” وهي من حيث النتيجة ستكون مفيدة للسلطة في انتاج توازنات جديدة داعمة لاستمرارها انطلاقا من”الشغب” الذي تمارسه تلك الفصائل، وهو كثيرا ما يؤدي إلى اهتزاز صورتها أمام حاضنتها الإجتماعية قبل أن يفعل أمام خصومها، لكن الفعل سيكون “سيفا بأكثر من حدين” ومفاعيله سوف ترتد على ضفاف السلم الأهلي أولا، ثم على مواقف” الأقليات”، التي لا تزال تعلن في غالبيتها على الأقل عن رغبتها في الإنضواء تحت راية السلطة الجديدة.