تداعيات السياسة واستراتيجيَّة المفاجآت

كتبت سوسن الجزراوي: بعيداً عن الحكمة ورجاحة التفكير، يبدو أن السياسة اليوم أصبحت فنّاً من فنون الكوميديا السوداء، أو لربما (فانتازيا) ترتقي لا على قمم الإبداع والخيال، وهذا هو واقع الحال على صعيد العالم بأسره دون أي لف أو دوران! إذ يبدو السياسي أشبه بكائن أسطوري يجمع بين الذكاء الخارق والنسيان المزمن لوعوده وخطاباته الرنانة.
فحين يتحدث عن “خدمة الشعب”، لا بد أن تبحث عن الشعب محور القضية الذي يقصده، ترى هل هو (شعب افتراضي)؟ أم إنه (رمزية) ترافق تلك الخطابات؟وأمام هذا الالتباس، تأتي التداعيات لاحقاً لتتجسد بعدة صور، فهنالك التضخم الاقتصادي، والبطالة المغلفة بنكهة وطنية، تحيط بها كل التبريرات المنطقية وغير المنطقية، ومشاريع تنموية (بطيئة النمو)، ولربما مصابة بضمور واضح!وهكذا تتحول السياسة من وسيلة لإدارة شؤون الناس إلى لعبة كراسي أحياناً، أو متاهات يضيع فيها المواطن البسيط، ولا يرتقي حلبة المنافسة فيها إلا من يُتقن (اللعب) على أوتار المصالح! يقول الكاتب البريطاني (جورج أورويل)، والذي يعد من أهم الكتّاب الإنجليز الذين كانت لديهم بصمات مهمة في المشهد السياسي، يقول: “في عصرنا لا يوجد شيء بعيداً عن السياسة، كل القضايا قضايا سياسية!”، وبهذا يختصر المسافة بين الواقع الاجتماعي الإنساني، وبين الصراعات والنزاعات والمؤامرات السياسية التي تخطط لها أيادٍ خفية، لتقلب الطاولة في لمح البصر، حاملة معها مشاهد مفبركة، (مواسية) لنتائج ذلك التشظي والأخطاء التي رافقت تلك التحولات، بشكل ملفتٍ للنظر، ومثيرٍ للجدل في أحيان كثيرة.
ولأن السياسة، في بعض أوجهها، تحتمل عنصر المفاجأة القادرة على تغيير المسارات المألوفة لذاك البلد أو تلك القارّة، وبالتالي منسحبة على القرارات والمواقف، فإن التحولات السياسية الكبرى، تُعد من أهم المفاجآت الشبيهة بالأعاصير، إذ تأتي مستغلة عدم استعداد القوى لمواجهتها، مما يؤدي إلى تغييرات جذرية في المشهد السياسي، ولربما صدمات مرعبة تصيب الساسة بالذهول والشلل التام عن إبداء أي رد فعل.ويلعب الغرور السياسي الذي يعيشه بعض الزعماء والحكام دوراً أكثر من مهم، باعتقادهم أنهم في حصانة ضد التغيير! ولكن الواقع يشير إلى أن الدعم، سواء كان شعبياً أو خارجياً، فهو متغير وغير مضمون،
لأن المصالح السياسية، وفي أحيان كثيرة (جداً)، تتفوق على الحس الوطني والالتزامات بمبادئ الأخلاق. هذا بالإضافة إلى التغيرات الإقليمية والدولية التي تمتلك تأثيراً عميقاً على السياسة المحلية، حيث إن التحولات في العلاقات بين الدول، أو التغيرات في السياسات الدولية، يمكن أن تؤثر على استقرار الأنظمة السياسية وتغيّر المشهد المعتاد.
ولا ننسى دور الاحتجاجات والاعتصامات الجماهيرية، والتي يُعدّها الكثير لاعباً أساسياً في الساحة السياسية، وقادرة بشكل أو بآخر، على الإطاحة بالحكومات أو تغيير المشهد بالكامل.من جهة أخرى، وانطلاقاً من الضرورات المفروضة أو التخبط غير المدروس، تُعد القرارات المتناقضة وغير المتوقعة شكلاً من أشكال الإرباكات التي تؤثر على الواقع الاقتصادي أو العلاقات الدولية، مما يمكن أن يؤزّم واقع السوق والتبادل التجاري بين الدول.ومن الأمثلة الحية على التداعيات السياسية في العالم والمفاجآت المؤثرة في الواقع الذي يحيط بنا، نقف قليلاً عند الحرب في غزة، إذ أدّت هذه المجزرة الوحشية إلى تداعيات سياسية واقتصادية كبيرة، حيث تأثرت حركة التجارة الدولية وارتفعت أسعار الطاقة والغذاء بشكل لا يمكن استيعابه أو التكيّف معه.وكانت قبل هذه الكارثة، الأزمة السورية، والتي أدت إلى تداعيات سياسية خطيرة وانقسامات واضحة، إضافة إلى تردّي الواقع الاقتصادي إلى درجة كبيرة، حيث تسببت في نزوح ملايين الأشخاص وتدمير البنية التحتية.
ولم تكن الدول الكبرى بعيدة عن هذا الاحتقان المشحون، فكانت التوترات بين الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، والتي تسببت في انهيارات سياسية واقتصادية كبيرة، حيث تأثرت الأسواق المالية والتجارة الدولية.وكانت الأزمة الأوكرانية أيضاً واحدة من أخطر صراعات المعسكرات الغربية والشرقية، إذ أدت إلى تداعيات سياسية وانتكاسات اقتصادية، تأثرت بها العلاقات بين الدول الغربية وروسيا، وتسببت في ارتفاع أسعار الطاقة.ويبقى المشهد السياسي، بكل ما يحيط به من رموز، أشبه بقنبلة موقوتة يتحكم بها جهاز (التحكم عن بعد)، والذي تسكن بطارياته في جُعبة القوى العظمى، تلك التي نصّبت نفسها وصيّة على مقدرات العالم.