مقالات

جيل اللمسة الواحدة

كتب د. أسامة أبو شعير: في الاقتصاد، يُضرب المثل بالفائدة المركبة: أرباح صغيرة تتراكم يومًا بعد يوم فتتحوّل مع مرور السنوات إلى ثروة كبيرة. التعليم لا يختلف كثيرًا عن ذلك. فالتعلّم نفسه عملية تراكمية، حيث تؤدي خطوات صغيرة متواصلة إلى فجوات ضخمة بين الطلاب. والسؤال الخطير هنا: ماذا لو فشلنا في التدخل المبكر؟.

 

لقد اعتدنا في مدارسنا أن نقيس أداء الطالب من خلال درجته في امتحان أو موقعه في الصف. غير أن هذه اللقطات اللحظية قد تكون خادعة. فالطالب الذي ينجح بالمذاكرة المكثفة ربما لا يمتلك أساسًا متينًا يمكن البناء عليه. وما يهم فعليًا ليس أين يقف الطالب الآن، بل إلى أين يتجه خط نموه. فالتعلّم في جوهره ليس عملية جمع بسيطة، بل هو شبكة تفاعلية: المفردات تقود إلى الفهم، والفهم يعزز المعرفة الخلفية، والمعرفة بدورها تُسرّع اكتساب مزيد من المفردات. إنها دائرة تتسع بمرور الوقت، وإذا لم نتدخل مبكرًا لضبط هذا المسار، تصبح الفجوات الصغيرة في الصفوف الأولى فجوات هائلة في المرحلة الثانوية والجامعية.اليوم نعيش زمن “جيل اللمسة الواحدة”.

حيث كل شيء يُختصر إلى ضغطة زر على شاشة هاتف. هذا الجيل يواجه خطرًا مضاعفًا: ليس فقط فجوة لغوية منذ الصغر، بل أيضًا ثقافة سطحية تفضّل التصفح السريع على القراءة العميقة. التدخل المبكر هنا ليس مجرد خيار تربوي، بل ضرورة وجودية، لأنه يعلّم الطفل أن المعرفة ليست معلومة جاهزة تُلتقط بلحظة، بل رحلة صبر وتدرّج وتراكم.في هذا السياق، يصبح مفهوم القراءة الأفقية والعمودية ذا أهمية خاصة. القراءة الأفقية هي الاطلاع السريع على مساحة واسعة من النصوص أو الأفكار، بينما القراءة العمودية هي الغوص في العمق وتحليل النصوص واستيعابها.

وإذا فشلنا في التدخل المبكر، سيبقى الطالب أسير القراءة الأفقية وحدها، متنقلًا بين العناوين والسطور، دون أن يملك القدرة على التحليل والاستيعاب. أما التدخل المبكر، فهو ما يمنحه الأدوات للانتقال بين الأفقية والعمودية بمرونة، فيتكوّن لديه عقل ناقد قادر على الجمع بين الاستيعاب السريع والتحليل العميق.لكن خطورة الموقف لا تقف عند المدرسة أو الأسرة وحدهما. هناك لاعب جديد دخل إلى المشهد بقوة: اقتصاد الانتباه.

المنصات الرقمية الكبرى اكتشفت أن أثمن ما تملكه ليس البيانات فحسب، بل وقت المستخدم وتركيزه. وهكذا صارت العقول سلعة، يُعاد تشكيلها لتبقى مشدودة أمام الشاشة أطول فترة ممكنة. الفيديو القصير الذي يظنه الطالب تسلية بريئة ليس سوى أداة مدروسة لانتزاع انتباهه، وتحويله إلى مادة خام تباع في سوق الإعلانات. وكما تقول الباحثة الأمريكية شوشانا زوبوف في كتابها عصر رأسمالية المراقبة (2019):.“كل نقرة، وكل ثانية مشاهدة، ليست مجرد تفاعل بريء، بل تتحوّل إلى بيانات خام تُستخدم لتوقّع سلوك الإنسان والتأثير فيه”.هذا الاقتصاد الجديد لا يهدف إلى تثقيف الطالب أو توعيته، بل إلى تشتيت انتباهه، وتعويده على التنقل السريع بين المثيرات.

النتيجة المباشرة هي ضعف التركيز وفقدان الصبر على القراءة الطويلة أو التفكير العميق. وكما وصف الكاتب الأمريكي نيكولاس كار في كتابه السطحية: ماذا يفعل الإنترنت بعقولنا؟ (2010):.“عقولنا تُعاد برمجتها للتعامل مع جرعات قصيرة من المعرفة، على حساب التفكير الطويل والتركيز العميق”.وفي مقاله الشهير هل تجعلنا غوغل أغبياء؟ The Atlantic، 2008، كتب كار:“صار من الصعب عليّ أن أقرأ كتابًا طويلًا أو حتى مقالًا معمّقًا. ذهني يريد أن يقفز من رابط إلى آخر، من شاشة إلى شاشة”.

هذه التحذيرات ليست بعيدة عن واقعنا. فكما أثبتت دراسة هارت وريزلي (1995)، الأطفال الذين يعيشون في بيوت غنية لغويًا يسمعون حتى ثلاثين مليون كلمة أكثر من أقرانهم بحلول سن الثالثة، وهذه الفجوة المبكرة تترجم لاحقًا إلى فروق ضخمة في التحصيل الدراسي. أما دراسة حديثة لــ Jiménez وزملائه (2025) فأكدت أن مواقف الأهل والبيئة القرائية في البيت، خاصة في البيئات متعددة الثقافات أو ذات خلفية هجرة، تُعد عوامل حاسمة في تطوير المهارات اللغوية المبكرة.

هذا يعني أن القراءة اليومية مع الطفل ليست نشاطًا عابرًا، بل قاعدة تحدد مساره التعليمي بأكمله.في العراق، تبدو هذه التحديات أكثر حدة. كثير من البيوت ما زالت تفتقر إلى مكتبات صغيرة، وكثير من الأسر ترى أن المدرسة هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن التعليم. في هذه البيئة، يصبح الفشل في التدخل المبكر معناه مضاعفة خطر قانون ماثيو: من يبدأ قويًا يزداد قوة، ومن يبدأ ضعيفًا يزداد ضعفًا. ومع صعود المنصات الرقمية التي تستنزف وقت المراهقين في مقاطع قصيرة، فإن الفجوة لا تبقى معرفية فقط، بل تصبح ذهنية وعاطفية أيضًا. التشتت، القلق، والإدمان على التمرير اللانهائي كلها أعراض لجيل قد يُحرم من مهارة التركيز العميق التي هي أساس أي إنجاز معرفي أو مهني.

إن الرهان الحقيقي على المستقبل يبدأ من السنوات الأولى. التدخل المبكر في البيت عبر القراءة اليومية لعشر أو خمس عشرة دقيقة، وفي المدرسة عبر استخدام أسئلة استرجاعية قصيرة ومراجعة تراكمية وتشجيع النقاش العميق، وفي السياسات التعليمية عبر الاستثمار في الصفوف الأولى وتدريب المعلمين وتوفير مكتبات صفية، كل ذلك يمكن أن يعيد التوازن في زمن اقتصاد الانتباه. وإذا فشلنا، فإننا لا نترك أبناءنا بلا أساس معرفي فقط، بل نسلّمهم إلى عالم رقمي لا يرى فيهم سوى “عيونًا على الشاشة”.

وحينها لن نخسر القدرة على القراءة العميقة وحدها، بل نخسر جيلًا بأكمله يصبح وقته ومشاعره وقراراته رهينة خوارزميات تعرفه أكثر مما يعرف نفسه.

إن التعليم ليس سباقًا قصير المدى، بل رحلة طويلة. والسؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم هو: هل نريد أن نعلّم أبناءنا القراءة لنصنع عقولًا ناقدة، أم نتركهم أسرى التصفّح، بلا أدوات للفهم العميق ولا قدرة على مقاومة سطوة اقتصاد الانتباه؟.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى