حكومة ما بعد انتخابات 2025

كتب إبراهيم العبادي.. ستكون الأيام والأسابيع وربما الأشهر التي تلي الانتخابات ثقيلة وطويلة، فهناك سقف عالٍ من التوقعات والاستحقاقات الداخلية والخارجية التي يتعين على العراق التعامل معها في ظل متغيرات إقليمية ودولية عاصفة وتحديات كبرى تحتاج إلى إدارة حاذقة وعقول سياسية واقتصادية تمتلك رؤية واعية وبراغماتية تمكّن البلاد من الخروج من حلقات الاختناق المتراكمة.
لكن الأمر المقلق ـ الذي يتكرر كل دورة انتخابية ـ هو تردّي المخيال السياسي لدى النخب التي تُصنع في غرفها القرارات والتفاهمات والسياسات، وتُشكّل فيها السلطات. وليس جديدًا القول إن ضعف الخيال السياسي وعدم القدرة على قراءة الواقع الداخلي والخارجي يشيع حالة من الاسترخاء الذهني والنفسي تدفع إلى التعامل مع تشكيل الحكومة وصياغة السياسات بوصفهما تفصيلًا ثانويًا، تمامًا كما حدث عام 2018 حين تشكلت الحكومة بناءً على قراءة أيديولوجية وسياسية ضيقة لا تعكس فهمًا لواقع العراق وتحدياته؛ فكانت النتيجة انفجارًا احتجاجيًا واسعًا لم تكن له محركات كبرى بقدر ما كان تعبيرًا عن تآكل الثقة.
وما زالت الشكوك قائمة اليوم حول قدرة القوى التي تمسك بزمام السلطة على الارتقاء إلى مستوى تقدير المخاطر برؤية الخبير العليم؛ إذ تستمر الخطابات المتواضعة والمناوشات الهزيلة التي تعكس انشغالًا بمبدأ تقاسم السلطة وإرضاء اللاعبين، بدل الانصراف إلى صناعة حكومة فاعلة ومسؤولة تستند في أولوياتها إلى القانون والمعايير الدولتية، لا إلى رغبات الأشخاص ومصالح الجهات النافذة.
وقبل محاولة الإجابة عن سؤال ما مواصفات الحكومة التي يحتاجها عراق ما بعد انتخابات 2025، وما الفارق بينها وبين الحكومة المنتهية ولايتها، لا بد من تفكيك أبرز المتغيرات الداخلية والخارجية التي تفرض نمطًا جديدًا من التفكير والاستجابة. داخليًا، كان المتغير الأبرز هو انزياح القوى ذات المصلحة في الإصلاح وتراجع الفكر التقويمي والبرامج الإصلاحية لصالح القوى التقليدية التي أكملت المسير ذاته، بمنهج جامد معاند لتجدد الزمن وتحوّل المجتمع.
هذه القوى فرحت بالنصر الانتخابي، لكنها أغفلت الشرعية المثلومة التي يحملها هذا الفوز: 56 بالمئة فقط أدلوا بأصواتهم، فيما لاذ ثمانية ملايين ناخب بالصمت، لم يحدّثوا بطاقاتهم ولم يشعروا أن المشاركة تُحدث فارقًا. هذه الظاهرة ليست رقمًا في هامش الانتخابات، بل رسالة غضب مكبوت ورفض صامت قد ينفجر بأي مناسبة. فالانتشاء بنتائج الصناديق لا يعفي القوى السياسية من التفكير الجاد في أثر هذا الانسحاب الشعبي على المشهد المقبل، خصوصًا ونحن أمام جيل جديد، جيل( Z) يعيش في بيئة سياسية واقتصادية وهوياتية سائلة، ولا يشعر بوجوده أو تمثيله في السلطة أو في منافعها.
وفي كردستان، ورغم انتشاء الحزب الديمقراطي الكردستاني بإعادة تأكيد هيمنته التشريعية ونصف تمثيل الكرد في البرلمان الاتحادي، فإن الواقع المحلي يحمل تحديات جدية لسلطته، فيما بقيت الأحزاب الجديدة ضعيفة الفاعلية، ما يدل على وجود شريحة شعبية واسعة لا تشعر بأنها ممثلة وقد تتحين الفرص لرفع صوتها. وفي بقية مناطق العراق، انحسر حضور القوى غير التقليدية واحتكرت القوى القديمة المشهد السياسي والإعلامي، ما يغلق أبواب الحوار ويفتح بدائل الاحتجاج الغاضب، خصوصًا بعدما تآكلت صورة هذه القوى بفعل الفضائح والتسريبات وسباق المغانم والمشاريع والهيمنة على الوزارات، حتى صار تشكيل الحكومات طريقًا لشرعنة السلطة والثروة معًا.
أما المتغير الثاني فهو غياب فهم جدي لما يجري إقليميًا ودوليًا. فبدل مراجعة دروس العامين الماضيين، نجح التحشيد السياسي في إيصال خمسة وستين نائبًا من القوى التي تحيا على خطاب الصراع الخارجي، ما يعني رفع نبرة الحماسة الثورية وترك الحكومة المقبلة مكشوفة أمام ضغوط عالمية متزايدة. فالشرق الأوسط بعد أكتوبر 2023 ليس الشرق الأوسط ذاته؛ الأوزان تغيّرت، والوجهة النهائية لسياسات الدول أصبحت متمحورة حول النجاة من الاستهداف، ناعمًا كان أو خشنًا.
تعمل واشنطن اليوم على هندسة خطوط السياسة الإقليمية وفق مبدأ السلام بالقوة والازدهار بالشراكة، وتزايد الاعتماد على الذراع الإسرائيلية في معالجة الخصوم. كثير من الدول ـ من الخليج إلى مصر وسوريا الجديدة ودول آسيوية إسلامية كبرى ـ اتجهت نحو التفاهم مع واشنطن لتفادي الاضطراب والعقوبات، فيما تدفع مخالفاتها ثمنها بضربات فنية دقيقة توجهها خوارزميات الذكاء الصناعي.
في المقابل، ما زلنا نمارس سياسة النعامة: نخفي الرأس ونترك الجسد مكشوفًا، ونرفع الضجيج بدل أن نمارس العقلانية السياسية. والأمثلة القريبة حاضرة، مثل خسارة إيران فرصة الاتفاق النووي مع إدارة بايدن السابقة تحت وهم انتظار تنازلات ستمنحها شتاءات أوروبا، فانتهى الانتظار إلى حرب وضربات مؤلمة وتشديد عقوبات.
ويأتي بعدها التحدي الاقتصادي، وهو ربما الأكثر خطورة. فالاقتصاد العراقي دخل مرحلة الخيارات الصعبة؛ لكي ينطلق يحتاج إلى تضحيات، ولكي يحظى بقبول شعبي يحتاج إلى سياسات إصلاحية حقيقية تجذب الاستثمارات وتُحسّن البيئة الاقتصادية وتواجه الفساد، وتكسر كارتلات المصالح والسياسات الشعبوية، وتفصل السياسة عن مالية الدولة. أسعار النفط مرشحة لأن تكون خانقًا جديدًا، وإن لم تُعتمد سياسات انضباط مالي صارمة، وجبايات حقيقية، ورقابة محكمة للإنفاق تتجاوز الضغط السياسي، فإن العراق قد يواجه ضغوطًا ثقيلة ستتفاقم بفعل أي إخفاق في التعامل الذكي مع الولايات المتحدة والدول الكبرى وشركاتها. تنويع الدخل لا ينسجم مع سياسات التوظيف الحزبي ولا مع إدامة نفوذ القوى التقليدية، والوقت ينفد، والفرصة تضيق أكثر ما لم تأتِ حكومة خبراء بعقلية مختلفة جذريًا عمّا كان سائدًا طوال السنوات الماضية.
ومن وحي هذه التحديات الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية، يصبح التفكير في شكل الحكومة القادمة ضرورة لا ترفًا. هل ينجح “الرجال الأقوياء” في فتح نافذة لنمط تفكير مغاير؟ هل نرى حكومة تُدار برؤية واقعية، متحررة من حسابات الغنيمة والنفوذ؟ أم أننا سنعيد تدوير الوجوه والسياسات وننتظر نتيجة مختلفة؟ المسؤولية اليوم تقع على عاتق القائمين على المفاوضات الجارية، وعلى ميولهم ونزعاتهم، وعلى آخر فكرة وصلت إليهم عن كيفية إدارة بلد معقّد مثل العراق



