مقالات
أخر الأخبار

خور عبد الله بين السيادة والتزامات ما بعد الحرب

كتب علي الساعدي.. في منعطف تاريخي جديد، تعود قضية “خور عبد الله” إلى واجهة الجدل السياسي والقانوني في العراق، بعد قرار المحكمة الاتحادية العليا بإلغاء قانون تصديق الاتفاقية الموقعة بين العراق والكويت عام 2012، والتي نظمت الملاحة في هذا الشريان البحري الحيوي، قرار جاء في سياق متغيرات داخلية وإقليمية، لكنه أعاد تسليط الضوء على ملف حساس يتقاطع فيه الأمن القومي، والسيادة الوطنية، والمصالح الاقتصادية.

خور عبد الله، ذلك الممر البحري الواقع في أقصى شمال الخليج العربي، يشكل المنفذ البحري الوحيد للعراق، ويفصل بين جزيرة بوبيان الكويتية وشبه جزيرة الفاو العراقية.

منذ عقود، كان هذا الخور محورًا لتوترات متكررة بين العراق والكويت، خصوصًا بعد أن قرر مجلس الأمن، بموجب القرار 833 لعام 1993، ترسيم الحدود بين البلدين بشكل نهائي، بما في ذلك الحدود البحريّة.

ورغم رفض بغداد آنذاك لهذا الترسيم، إلا أنها وافقت رسميًا في عام 1994، ضمن سلسلة من التنازلات السياسية التي ترافقت مع المساعي لرفع العقوبات الدولية عن العراق بعد غزو الكويت.

في عام 2012، وُقّعت اتفاقية بين البلدين لتنظيم الملاحة في خور عبد الله، أُقرّت لاحقًا في البرلمان العراقي عام 2013. الاتفاقية نصّت على احترام السيادة المشتركة، وإنشاء لجنة عراقية كويتية لإدارة الممر، ومنع أي أنشطة تضر بخط الملاحة.

لكنّها، بعد سنوات من التوقيع، تحولت إلى مادة خلافية في الداخل العراقي، حيث اعتبرها كثيرون “تنازلًا غير مبرر” عن حقوق العراق السياديّة، خصوصًا مع بناء الكويت لميناء مبارك الكبير على مشارف الخور، وهو ما اعتبره العراقيون تهديدًا مباشرًا لمشروع ميناء الفاو الاستراتيجي.

في سبتمبر 2023، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارًا يقضي بعدم دستورية التصديق على الاتفاقية، بحجة عدم استيفائها النصاب المطلوب (ثلثي أعضاء مجلس النواب). القرار أثار ارتياحًا لدى قطاعات شعبيّة واسعة، لكنه فتح باب توتر دبلوماسي مع الكويت، التي رأت في الموقف العراقي تراجعًا عن التزام دولي رسمي.

الملف لم يعد قانونيًا فحسب، بل دخل أروقة السياسة الإقليمية والدبلوماسية. فقد سارع مجلس التعاون الخليجي إلى إصدار بيان يؤكد التزام الكويت بالقانون الدولي، داعيًا العراق إلى احترام الاتفاقات الثنائية الموقعة.

في المقابل، يتشبّث العراق بموقفه الجديد الذي ينطلق من مبدأ “تصحيح الأخطاء التاريخيَّة”، لكنه يحتاج إلى مسار دبلوماسي حذر، يوازن بين استرداد السيادة، وعدم الانزلاق إلى عزلة قانونية أو سياسية في محيط متشابك المصالح.

القضية اليوم في مفترق طرق فإما أن تتحول إلى ورقة نزاع إقليمي قد تُستغل في سياقات أكبر، أو أن تكون فرصة لإعادة التفاوض المشترك بروح المسؤولية، بما يضمن للعراق ممرًّا بحريًا سياديًا فاعلًا، وللكويت أمنًا مائيًا مستقرًا.

ختاماً خور عبد الله ليس مجرد ممر مائي. إنّه خلاصة عقود من الحروب والقرارات والمساومات، لذا التعامل معه يتطلب لغة العقل لا الانفعال، وفن التفاوض لا الشعارات. السيادة لا تُهدى ولا تُباع، لكنها أيضًا لا تُسترد إلا بحكمة تحمي المصالح العليا للدولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى