
كتب علي احميد عبيد.. تتسارع وتيرة الأحداث في غرب آسيا بشكل عام والشرق الأوسط بشكل خاص وتتعمق تعقيداتها كلما اندلعت مواجهات بين القوى الإقليمية، ومن بين أبرز الصراعات التي كشفت الكثير من الحقائق الاستراتيجية المواجهة الأخيرة بين الكيان الصهيوني وإيران.
فرغم أن هذه الحرب لم تكن شاملة أو طويلة (الى الآن)، إلا أنها كانت كاشفة بعمق لأدوات الصراع الحديثة وحدود القوة التقليدية، وأهمية التكامل بين القدرات العسكرية والاستخباراتية، وتوظيف القوة العابرة للحدود من مسيّرات وصواريخ وتجنيد عملاء.
كعراقيين نعيش في قلب هذا الإقليم المضطرب بحكم الجوار الجغرافي، ومن واجبنا أن نستخلص الدروس الاستراتيجية التي تحصّن بلادنا قبل الوقوع في المغبّة، وهذا هو عين الصواب حينما نستفيد من تجارب الآخرين.
ومن بين أبرز ما يجب أن نتوقف عنده في هذه المواجهة درسان أساسيان هما، أولاً ـ أهمية سلاح الجو في الحرب الحديثة: اذ أظهرت المواجهة بين الكيان وإيران الدور الحاسم لسلاح الجو في الدفاع والهجوم، حيث تمكنت الطائرات المقاتلة، والطائرات بدون طيار، ومنظومات الدفاع الجوي، من تغيير ميزان القوى على الأرض خلال ساعات. فالقدرة على الوصول إلى أهداف دقيقة داخل عمق العدو، وتدميرها دون الحاجة لتحريك جيوش برية، جعلت من التفوق الجوي ميزة استراتيجية غير قابلة للتجاوز.
رغم التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها الدولة العراقية، إلا أنّ بناء منظومة جوية متطورة أصبح ضرورة وطنية لا يمكن التغاضي عنها. فلا يمكن مواجهة تهديدات من قبيل التسلل عبر الحدود، أو ضرب البنى التحتية الحيوية أو استهداف مقارّ الدولة دون غطاء جوي فعال قادر على الردع والمبادرة.
وعلى المدى المتوسط يجب وضع خطة استراتيجية لتطوير سلاح الجو العراقي، لا تقتصر على الطائرات القتالية فحسب بل تشمل الرادارات والطائرات المسيرة والأنظمة الدفاعية الحديثة، بالتعاون مع شركاء دوليين واقليميين يمتازون بالخبرة والموثوقية.
هذا الأمر كان يجب ان تتم معالجته باستراتيجية الأمن الوطني العراقي 2025 – 2030 التي أقرها العراق منتصف العام الحالي، والتي أكدت في الهدف الأول منها على تطوير منظومة الأمن والدفاع لتحقيق الأمن الداخلي والخارجي.
كذلك نحتاج اعادة التركيز وبشكل واضح على القوة الجوية واستراتيجيات الردع في العقيدة العسكرية العراقية.
ثانياً ـ ضرورة القضاء على الخلايا النائمة وتأمين الحدود عبر الجهد الاستخباري في الحرب بين الكيان وإيران: لعبت الخلايا النائمة دوراً حساساً، فالهجمات التي انطلقت من أراضٍ عربية مجاورة أو من داخل العمق المحتل نفسه، أكدت أن الخطر لم يعد خارجياً فقط بل داخلياً أيضاً.
كذلك ان هذه الخلايا وكما هو ظاهر من طبيعة أنشطتها كانت مدربة ومحترفة وهذا يعني أن تجنيدها لم يكن حديثاً، مضافاً إلى أن وجودها على ما يبدو ليس وليد اللحظة أو خرق للحدود قبل الاصطدام بمدة قصيرة والديل وجود مصانع للطائرات المسيرة والمتفجرات، هذا يعني أن الاختراق والتجنيد قد حصل قبل وقت ليس بقصير وترتيباته قد حصلت بمدة طويلة.
ولم يعد مقبولاً الحديث اليوم عن الدفاع دون امتلاك منظومة استخبارية قادرة على الرصد والملاحقة والتعطيل الاستباقي لأي تهديد محتمل.
الواقع الأمني في العراق لا يزال هشًّا في بعض مناطقه، والخلايا النائمة لا تنتمي فقط لتنظيم “داعش”، بل تشمل أيضاً عصابات التهريب والتخريب الاقتصادي والمتاجرة في الممنوعات بمختلف أنواعها.
إن بناء منظومة استخبارية وطنية فعالة، وغير مخترقة، ومنسقة بين الوزارات السيادية (الداخلية، الدفاع، الأمن الوطني، المخابرات) يُعدّ صمام أمان للدولة. كما أن ضبط الحدود، خصوصاً مع دول الجوار غير المستقرة، يجب أن يتحول إلى أولوية عليا، تُدار ليس فقط أمنياً، بل استخبارياً وتكنولوجياً، باستخدام الطائرات المسيرة، والكاميرات الحرارية، وأنظمة المراقبة الذكية.
وهذا الأمر عالجته استراتيجية الأمن الوطني العراقي 2025 – 2030 حيث أقرت في الفقرة الرابعة منها تحت عنوان (المصالح الاستراتيجية العليا)، والتي حُدّدت بست مصالح عليا، منها – تجفيف منابع الإرهاب -.
لا توجد وصفة جاهزة للأمن ولكن هناك دروسا لا يجب اغفالها والتعلم منها، وهي تجارب الدول المتقدمة، فالعراق الذي مرّ بتجارب مريرة في العقدين الأخيرين عليه أن يتحوّل من موقع رد الفعل إلى صناعة المبادرة.
والسبيل إلى ذلك يبدأ من بناء قوة جوية فاعلة ومنظومة استخباراتية متماسكة ورؤية استراتيجية تتعلم من محيطها المتغير باستمرار، وهذا ما يحتاج أن تثبته المكتوبات والتنظيرات (استراتيجية الأمن الوطني العراقي 2025 – 2030) وانعكاسات ذلك على الواقع الفعلي من خلال الاستعجال في تطبيق هذه الاستراتيجية وتوفير كل مستلزماتها وتكاتف كل الجهود لتحقيقها بغية الوصول بالعراق إلى الاستقرار التام أو كما أُطلق على الاستراتيجية (العراق أولاً).