
كتب علي حميد الطائي: بعد مرور عام على إجراء التعداد السكاني لعام 2024، تبدو هذه المناسبة أشبه بعودة الدولة إلى واحدة من أهم وظائفها الحديثة: القدرة على رؤية مجتمعها كما هو لا كما يُتخيَّل في التصريحات أو التقديرات القديمة.
فالتعداد الذي أُنجز بعد انقطاع دام منذ عام 1997، لم يكن مجرد عملية إحصائية واسعة، بل كان إعلاناً عملياً عن أن العراق امتلك أخيراً القدرة الإدارية والسياسية لإنجاز مشروع وطني شامل بهذا الحجم، في لحظة أحوج ما يكون فيها إلى بيانات موثوقة تعيد ترتيب أولوياته التنموية وتُصلب ركائز نظامه السياسي وتجعل صانع القرار في موضع يمكّنه من رؤية الأمور بشكل رقمي موثّق.
لقد قدّمت وزارة التخطيط خلال الأشهر الماضية، صورة دقيقة عن السكان وصار بإمكان الدولة أن تتحدث بالأرقام لا بالانطباعات.
وتشير النتائج الرسمية التي أعلنتها الوزارة إلى أن عدد سكان العراق بلغ 46,118,793 نسمة، وهو رقم يضع البلاد أمام تحديات جديدة وفرص واسعة في آن واحد، خصوصاً حين نعلم أنّ أكثر من 60 بالمئة من السكان ينتمون إلى الفئة العمرية المنتجة بين 15 و64 عاماً، وأنّ ما يقارب ثلثهم تقريباً دون سن الخامسة عشرة.
هذه التركيبة تعني أنّ العراق يقف على كتلة شبابية ضخمة يمكن أن تتحول إلى قوة اقتصادية جبارة إذا أُحسن التعامل معها، أو تتحول إلى ضغط اقتصادي واجتماعي إذا ضاعت من دون سياسات تشغيل وتعليم ورؤية مستقبلية واضحة.
كما تكشف نتائج التعداد عن توزّع عمراني لافت، إذ يعيش نحو 70 بالمئة من السكان في المدن مقابل 30 بالمئة في المناطق الريفية، وهي معادلة تُحتِّم إعادة النظر في توزيع الخدمات والبنى التحتية والفرص التنموية، بما يضمن توازناً بين الحاضر الحضري المتسارع وامتداد الريف الذي ما زال يعاني نقصاً واضحاً في الخدمات.
حين أُعلن عن هذه الأرقام بدا واضحاً أن التعداد لم يكن مجرد كشف حساب ديموغرافي، بل شهادة على تطور النظام السياسي الذي تأسس بعد عام 2003، فالدولة التي تجري تعداداً شاملاً لكل مواطنيها، وتعلن نتائجه بشفافية وتعمل على دمجها في خطط التنمية، هي دولة تضع نفسها على سكة الحكم الرشيد، وبذلك يمكن القول إن التعداد تحوّل إلى أداة لتعزيز الشرعية السياسية، لأنّ الشرعية ليست خطاباً سياسياً فقط بل قدرة عملية على إدارة مجتمع معقد مثل العراق بطريقة علمية تعتمد على المعرفة الدقيقة لا على التقديرات الفضفاضة.
إنّ مرور عام على التعداد يمنحنا فرصة لمراجعة الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع نتائجه، وكيف يمكن تحويل هذه البيانات إلى سياسات تنموية حقيقية، فالتعداد يكشف مثلاً الحاجة إلى تطوير خطط الإسكان بما يتناسب مع حجم الأسر الذي بلغ معدله نحو 5.7 أفراد، كما يكشف عن ضرورة إعادة هيكلة موازنات المحافظات وفق كثافتها السكانية، بما يضمن توزيعاً عادلاً للموارد بعيداً عن الصيغ القديمة التي كانت تعتمد على نفوذ سياسي أكثر مما تعتمد على حاجة تنموية، وهو يفتح الباب أمام إعادة التفكير في أنماط الاستثمار، إذ لم يعد من الممكن وضع خطط اقتصادية دون معرفة دقيقة بحجم القوة العاملة ومواقعها وحاجاتها خاصة في بلد يشهد انتقالاً متزايداً نحو المدن.
لقد توفّر للتعداد أيضاً بعدٌ وطني مهم، ففي بلد مرّ بانقسامات سياسية وأمنية طويلة، يصبح تنفيذ مشروع شامل يشارك فيه الجميع، من الشمال إلى الجنوب بمثابة تذكير بأنّ الدولة ما زالت قادرة على توحيد العراقيين حول مشروع مشترك، وهذا البعد الرمزي لا يقل أهمية عن بعده التنموي أو الاقتصادي لأنّ الدول لا تُبنى بالخطط وحدها، بل بالثقة أيضاً، والتعداد كان خطوة في بناء هذه الثقة مجدداً بين المواطن ومؤسساته.
اليوم وبعد عام من ذلك الحدث، تبدو الدولة أمام فرصة لا ينبغي التفريط بها، فالأرقام التي أعلنتها وزارة التخطيط ليست جداول تُحفظ في الملفات، بل هي مادة حية يجب أن تدخل مباشرة في صناعة القرار، وفي إعادة تشكيل السياسات العامة وفي بناء رؤية تنموية لعقد مقبل على الأقل.
وإذا نجحت الحكومة في تحويل نتائج التعداد إلى برنامج عمل واضح مبني على العلم والبيانات، فإنّ ذلك سيكون بمثابة انتقال سياسي وإداري يُحسب لصالح النظام السياسي القائم، ويضيف إلى مسار التحول الذي بدأ بعد 2003 دليلاً جديداً على أن الدولة العراقية تزداد قدرة على التخطيط، لا على الاستجابة الطارئة فقط.
بهذا المعنى لا يصبح تعداد 2024 مجرد حدث مرّ وانتهى، بل علامة فارقة في مسيرة الدولة العراقية الحديثة، ودليلاً على أن التغيير السياسي لم يقتصر على البعد الانتخابي والمؤسساتي، بل وصل اليوم إلى جوهر الدولة وهو قدرتها على معرفة شعبها وإدارة مستقبله.



