
كتب خالد عليوي العرداوي.. تعد الحكومة في الدولة الحديثة الجهاز التنفيذي، الذي يحتكر الاستخدام المشروع لوسائل القوة والاكراه داخل حدود الدولة، وتمارس هذا الدور في إطار قانوني ودستوري، ولذا عرف ماكس فيبر الحكومة بأنها:” الكيان البشري الذي يحتكر الاستخدام المشروع للعنف المادي داخل إقليم معين”.
وهذا يعني أن الحكومة هي الأداة الفعلية لاحتكار استخدام القوة، اذ تمتلك وحدها- عبر مؤسساتها الأمنية والعسكرية والقضائية- حق فرض النظام وتنفيذ القوانين ومنع أي جهة أخرى من استخدام القوة خارج إطار الشرعية.
وتقاس قوة الدول الحديثة بقدرة حكوماتها على الاضطلاع بدورها في الاستخدام المشروع للقوة بفاعلية، وبخلاف ذلك، أي عندما تكون هناك قوى اجتماعية وسياسية داخل الدولة تنازع وتزاحم الحكومة في استخدام القوة، فإن ذلك يصيب الحكومة بالضعف في إدارة السلطة السياسية، والفشل في فرض القانون، وحماية السيادة الوطنية، وتراجع الثقة الوطنية والدولية بها، فتعاني الدولة آنذاك من الهشاشة، وتعدد مراكز صنع القرار الأمني والسياسي، والغرق في الفوضى والتخلف متعدد الابعاد.
لقد شهد العراق في مطلع تأسيس دولته الحديثة في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم وجود قوى اجتماعية تنازع حكومته في الاستخدام المشروع للقوة، فكان ذلك الأمر سببا في شكوى الملك فيصل الأول في رسالته الشهيرة سنة 1933، التي جاء فيها:”… يوجد في المملكة ما يزيد على المئة الف بندقية، يقابلها 15 الف بندقية حكومية، ولا يوجد في بلاد الله حالة حكومية وشعب كهذه”، ولذا دعا إلى ما اسماه بـ “ تزييد قوة الجيش” ليكون قادرا على تنفيذ مهامه بقوة واقتدار في مختلف الظروف؛ لكونه “العامود الفقري لتكوين الأمة”، وانه “من الجنون القيام بإنشاءات واصلاحات عظيمة في البلاد، قبل أن نطمئن إلى كفاية القوة الحامية لهذه الاعمال”.
وتكرر – للأسف- هذا الحال بوضوح بعد سنة 2003 اذ عاش البلد وضعية شاذة للغاية ناجمة عن عجز حكوماته المتتابعة من القيام بدورها الطبيعي في الاحتكار المشروع لاستخدام القوة المادية فوق الأرض العراقية؛ بسبب وجود اشكال متعددة من السلاح المنفلت كالسلاح الفردي والعشائري والفصائلي، مما عطل البرامج الحكومية، وعرقل قيام المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية بدورها الدستوري، ولذا نجد أن الحكومة الحالية للسيد محمد الشياع السوداني، جعلت واحدا من أهدافها الرئيسة لتحقيق الأمن والاستقرار داخل العراق في برنامجها الحكومي المعلن سنة 2023 هو “انهاء ظاهرة السلاح المنفلت خارج نطاق المؤسسات الرسمية والشرعية للدولة”، وهو توجه صحيح تماما، فليس من الحكمة في شيء أن تكون الحكومة ضعيفة وعاجزة عن حصر السلاح بيدها؛ لأنها لن تضمن الامن والاستقرار لشعبها، وبسبب ذلك عانت الحكومات العراقية بعد سنة 2003 من التعطيل المقصود لبرامجها بأشكال عديدة، بل وعملت بعض الأطراف داخل السلطة وخارجها بفاعلية على تقوية مظاهر السلاح المنفلت؛ لإحراج الحكومة ومنعها من فرض سيادة القانون والنظام، مما دفع المرجعية الدينية لسماحة السيد السيستاني في خطب كثيرة خلال العقدين المنصرمين إلى ربط بناء الدولة والمجتمع في العراق بحصر السلاح بيد الحكومة، ووضع حد لظاهرة انفلاته من خلال تقوية المؤسسات الدستورية لاسيما القضاء والأجهزة الأمنية والعسكرية.
إن حصر الحكومة الحالية للسلاح بيدها لم يعد مجرد شعار اعلامي وسياسي، بل هو ضرورة ملحة أمنيا واجتماعيا واقتصاديا: فأمنيا نجد أن جماعات السلاح المنفلت صارت عبئا ثقيلا يهدد الامن والاستقرار في العراق، ويحول دون قدرة الحكومة على تحقيق أهدافها، كما تحرجها أمام الرأي العام المحلي والدولي، بل وتلحق أضرارا بالقدرات العسكرية للدولة، وجعلت الحكومة في موضع المدافع والمتهم عندما هددت باستهداف مصالح بعض الأطراف الإقليمية والدولية، بعيدا عن سياسة الحكومة المعلنة في الحياد الإيجابي والنأي بالنفس عن التورط عسكريا في الصراعات الخارجية.
واجتماعيا، فالأمثلة لا عد لها ولا حصر، ومنها ما تواجهه الحكومة من صراعات مسلحة مستمرة بين العشائر العراقية، لاسيما في جنوب العراق، والتي ذهب ضحيتها عدد كبير من الناس، وأحيانا توجهت بعض هذه العشائر لتهدد بالسلاح شركات النفط العاملة في العراق لتحقيق مكاسب خاصة، فضلا عن انتشار ظاهرة القتل لأسباب جنائية، وهي مظاهر باتت تهدد الامن المجتمعي، حتى باتت مقولة ان السلاح هو الحل تطغى في النزاعات الاجتماعية، وتحد من قدرة الافراد والجماعات على حل مشكلاتهم الطبيعية بالطرق السلمية.
واقتصاديا، تعد البيئة غير المستقرة أمنيا بيئة غير مناسبة للتنمية والتطور الاقتصادي الناجح، وتبدو دلائل هذا الامر في احجام الكثير من المستثمرين الأجانب عن العمل في العراق، واضطرار بعضهم إلى التخلي عن استثماره أو إيقافه بين فينة وأخرى، فضلا عما يتركه ذلك من قلق دائم ومستمر للمواطن العراقي، سواء كان مستهلكا أم منتجا.
وانعكس تعطيل مشروع التنمية الاقتصادية الشاملة سلبا على المجتمع في الحد من قدرة الحكومة على معالجة ملفات عديدة كالفقر، والبطالة، وتصاعد معدلات العنف، والجريمة، وغيرها، مما يعني أن وجود السلاح المنفلت خلق وضعا أمنيا غير مستقر نتج عنه وضع اقتصادي هش ترك تأثيراته السلبية على السلم والامن المجتمعي.
وإزاء كل ما تقدم، تكون القوى السياسية والاجتماعية والمؤسسات الدينية وسائر النخب مطالبة بالاصطفاف الكامل والصادق خلف هدف حصر السلاح بيد الحكومة، وإنهاء ظاهرة السلاح المنفلت، فهذه الظاهرة غير الحضارية باتت تهدد نظام الحكم في العراق، وتحول المؤسسات الدستورية إلى مؤسسات مغلوبة على أمرها، وخاضعة للتهديد والابتزاز المستمر، كما تعرقل التنمية الاقتصادية، وتهدد السلم الاجتماعي، وتدفع العراق دولة وشعبا إلى البقاء في دائرة التخلف والتأخر التي عانى منها لوقت طويل.