مقالات

حين تتكلم الصواريخ

كتب جاسم حسين الخالدي.. لم تكن حرب المدن بين طهران وتل أبيب مجرد جولة عسكرية عابرة في تاريخ طويل من التوتر بين إيران والكيان الصهيوني، لقد كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة الجمهورية الإسلامية على تثبيت معادلات جديدة في ميزان الردع الإقليمي، في لحظة حرجة من صراع الإرادات والهيمنة.

ففي اثنتي عشرة ليلة فقط، تحولت إيران من دولة محاصرة بالعقوبات، مثقلة بتحديات الداخل، إلى طرف يفرض حضوره العسكري والسياسي بقوة الصواريخ لا عبر الوسطاء فقط.

لقد باغتت طهران الجميع، ليس فقط بقدراتها الصاروخية التي اخترقت العمق الإسرائيلي، بل أيضًا بصلابتها السياسية التي قاومت الضغوط والتهديدات، وأدارت المعركة بحساب دقيق بين الألم والرسالة.

إسرائيل، التي لطالما تباهت بتفوّقها التكنولوجي ومنظوماتها الدفاعية، وجدت نفسها لأول مرة أمام واقع أمني لا يمكن إنكاره، أن خصمها يمتلك من العزيمة والإمكانيات ما يجعل “العمق الإسرائيلي” مهددًا بشكل جدّي. الصواريخ التي حلّقت فوق سماء فلسطين المحتلة لم تكن فقط أداة عسكرية، بل إعلانًا واضحًا بأن زمن احتكار الردع قد ولّى، وأن المعادلة تغيّرت.

لم تكن الحرب بلا ثمن لإيران. نعم، سقط قادة وخبراء، ودمّرت بعض البنى الحيوية، لكن الرسالة الأهم أن الدولة الإيرانية لم تنكسر، ولم تتراجع، بل خرجت من المحنة أكثر ثقة بقدرتها على حماية مشروعها السيادي في ظل حصار دولي خانق، وتجاذبات داخلية لا تخفى على أحد.

لقد كشفت هذه المواجهة أيضاً هشاشة المنظومات الأمنية التي انشغلت في الداخل بقمع المثقفين والمعارضين، وأغفلت خطر الاختراقات الخارجية. ولكن هنا، تلوح الفرصة لا الانكسار، فالرئيس الإيراني المنتخب، الدكتور بزشكيان، يقف أمام لحظة مراجعة عميقة. مراجعة قد تفتح الأبواب أمام إعادة ترتيب البيت الداخلي، وإعادة التوازن بين الأمن والحرية، بين صيانة الدولة، وضمان حقوق المواطن. وما الحرب إلا دافع لإصلاح ما أهملته سنوات الانشغال بالخارج.

أما المشهد العربي، فقد بدا مرتبكًا. بين من تفاعل مع صواريخ طهران كصوت للمستضعفين، ومن حمل على تدخلاتها في الإقليم. لكن ما لا يمكن إنكاره، أن إيران فرضت نفسها على الطاولة، لا كدولة منبوذة كما يراد تصويرها، بل كطرف لا يمكن تجاوز إرادته، ولا تجاهل قوته.

قطر، في وساطتها الذكية، تحركت ضمن هامش ضيق، لكن التحرك بحد ذاته يشير إلى اعتراف دولي بدور إيران الحاسم في التوازنات الجديدة. حتى عندما تعرضت القاعدة الأميركية في الدوحة لهجوم رمزي، بدا الأمر أقرب إلى محاولة إخراج الوساطة القطرية بمظهر المحايد القادر على كسب ثقة الطرفين.

لقد خرجت إيران من هذه الحرب لا بوصفها منتصرة فقط عسكريًا، بل بوصفها دولة تدير صراعها بعقل استراتيجي، وبنَفَس طويل. لقد أثبتت أن الزمن الذي تُعزل فيه قوى الإقليم عبر العقوبات والضغوط الإعلامية قد انقضى. فالدولة التي تُقصف، لكنها لا تسقط، تستحق أن يُعاد النظر في خطاب العالم عنها، وأن تُفهم بمنطق جديد، منطق التاريخ، لا العناوين السطحية.

لقد أثبتت طهران، في خضم نيران الحرب، أنها ليست مجرد دولة تردّ، بل دولة تفكّر وتخطط وتنتظر لحظتها السياسية. ولعل ما بعد هذه الحرب يمثل فرصة حقيقية لإيران كي تتحوّل من قوة مقاومة إلى قوة مبادرة، ترسم معالم مشروع نهضوي داخلي يعيد الثقة لشعبها، ويؤسس لحوار حقيقي مع شعوب المنطقة.

فإيران ما بعد “الليالي الاثنتي عشرة” ليست إيران ما قبلها. إنها دولة أكثر وعيًا بمكامن ضعفها، وأكثر يقينًا بإمكانات قوّتها. وإن أعادت النظر في أولوياتها، وفتحت أبوابها لطاقاتها المبدعة، وخففت من وطأة القبضة الأمنية، فإنها ستكون مؤهلة لا لردع خصومها فقط، بل لبناء نموذج يحاكي تطلعات الأجيال القادمة.

الشرق الأوسط لا يحتاج فقط إلى من يملك الصواريخ، بل إلى من يملك الرؤية. وقد تكون الحرب بكل مآسيها، بداية لما يمكن أن يكون طريقًا نحو السلام المستند إلى الكرامة، لا الخنوع، وإلى الحوار القائم على الندية، لا التبعية.

إن صمود إيران اليوم يمكن أن يكون مدخلاً لتجديد مشروعها الحضاري، إذا ما اختارت أن تجعل من هذه اللحظة نقطة انطلاق، لا نهاية لحرب

أخرى.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى