
كتب إبراهيم العبادي.. يشتد الجدل في إيران بشأن ما ينبغي اتخاذه لتفادي الحرب مجدداً وتجنيب البلاد مشكلات إضافية لم يعد التعامل معها يسيراً.
فمنذ أن استفاقت إيران من صدمة الحرب التي شنتها إسرائيل بغطاء وتأييد أمريكي – غربي في حزيران الماضي، والنقاش على أشده بين الأجنحة السياسية حول كيفية منع هجمات جديدة، وما إذا كان الخطاب السياسي والمنهج العام بحاجة إلى تغيير أو إصلاح أو إعادة ترتيب الأولويات.
ثمة شبه إجماع لدى النخبة السياسية والحكومية والأكاديمية الإيرانية على أن وقف الحرب يوم 26 حزيران لم يكن سوى هدنة مؤقتة، وأن احتمالات تجددها واردة في أي لحظة. فإسرائيل لا تزال تهدد بالهجوم، وصقور اليمين الصهيوني بقيادة نتنياهو يصرون على استثمار ما يرونه فرصة للتخلص من “التهديد الإيراني” ومحور المقاومة الذي قادته ودعمته طهران. وتعترف تل أبيب بأن حرب الأيام الاثني عشر لم تؤدِّ إلى إسقاط النظام الإيراني، ولم تنجح في فرض الاستسلام عليه أو القضاء نهائياً على مشروعه النووي رغم الضربات الكبيرة التي تلقاها. هذه المعطيات تجعل من احتمال تجدد الهجوم أمراً وارداً، بل إن محللين إيرانيين حددوا شهري أيلول وتشرين الأول القادمين كموعد محتمل لجولة جديدة من الحرب.
ولتفادي ذلك، سارعت طهران إلى توجيه رسائل تحذيرية بأنها ستستخدم صواريخ جديدة أكثر تدميراً، كما تحركت بقوة لسد الثغرات الأمنية والاستخبارية التي استثمرتها إسرائيل في هجماتها الأخيرة. وتشير التقارير إلى أن نحو 21 ألف شخص اعتقلوا بشبهة التعاون مع الموساد، فيما تبذل أجهزة مكافحة التجسس جهوداً مضنية لكشف مصادر التسريب التي منحت إسرائيل ميزة تفوقية في الحرب الأخيرة.المشكلة لا تكمن فقط في رجحان كفة المعلومات والتكنولوجيا التسليحية الإسرائيلية بدعم أمريكي – أوروبي، بل في انهيار “جدار الردع” الذي راهنت عليه إيران طويلاً، وظهر عجزه عن منع العدوان. لذا تجد طهران نفسها أمام خيارات محدودة في هذه المرحلة الحرجة، وأهمها: تعزيز الموقف الداخلي وتماسكه. صياغة استراتيجية دفاعية تحول دون استهدافها مجدداً. منع تفعيل “آلية الزناد” التي تهدد بها فرنسا وبريطانيا وأمريكا عبر دبلوماسية مقنعة تحدث شرخاً في الموقف الغربي – الإسرائيلي الموحد.لكن الصعوبة تكمن في بطء الإيرانيين في التحرك واتخاذ قرارات جريئة تفرغ التهديدات الغربية من مضمونها. فالأوروبيون يشترطون عودة إيران إلى التفاوض مع واشنطن واستئناف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يمنعه قانون أصدره البرلمان الخاضع لهيمنة التيار الأصولي المتشدد. وتزداد مهمة حكومة الرئيس بزشكيان تعقيداً لسببين: الاول : الهجوم السياسي والإعلامي للتيار المتشدد، الذي لوّح بسحب الثقة من الرئيس بسبب رفضه منطق الحرب وتفضيله الدبلوماسية، وحديثه الصريح عن نقاط الضعف والأزمات التي تعاني منها إيران.الثاني : صعوبة تغيير الاستراتيجية التقليدية التي أثبتت تكاليفها الباهظة، ولم تحقق الأهداف الدفاعية والأمنية المرجوة، بل ارتدت سلباً على الاقتصاد والخدمات بفعل العقوبات والعزلة وتراجع الاستثمارات وهجرة العقول ورأس المال (خروج 216 مليار دولار حتى الان). ورغم توحد الايرانيين اثناء الحرب رغم اختلاف التوجهات الا ان الانقسام الداخلي بين النخب عاد ليعمّق الأزمة. فالأصوليون يهاجمون المعتدلين والإصلاحيين بشدة، فيما يرد الإصلاحيون بهجوم مضاد غير مسبوق، سيما غلاة الاصلاحيين (جبهة الاصلاحات) مطالبين بوقف تخصيب اليورانيوم طوعاً، والتفاوض المباشر مع واشنطن، ودمج الحرس الثوري بالجيش ومنعه من التدخل في الاقتصاد والسياسة والإعلام.
هذا التباين الفاحش في المواقف يكشف حجم المأزق الذي يواجه الجمهورية الإسلامية بعد 46 عاماً على قيامها، إذ باتت أمام خيار مصيري بين الثبات على النهج الأيديولوجي والسياسي أو الاستجابة لداعي التغيير، بدرجاته وأشكاله ومتطلباته المختلفة، العقبة التي تمنع الشروع بالاصلاح الخشية من النتائج السيئة التي خلفتها اصلاحات غورباتشوف في بنية الاتحاد السوفييتي وقادت الى انهياره وهي التجربة الماثلة امام صناع السياسات في ايران، ربما يكون نموذج دنغ شياو بنغ الصيني الاقرب الى المحاكاة لكنه يحتاج الى زمن اطول من الوقت المتاح راهنا .لتجاوز الانقسام، أقدم النظام على سلسلة تغييرات في الهرم الأمني والعسكري، أبرزها تعيين علي لاريجاني أميناً عاماً لمجلس الأمن القومي خلفاً لأحمديان، وإشراك شخصيات وازنة مثل علي شمخاني وعلي أكبر أحمديان في مجلس الدفاع المنبثق عن المجلس. هذه التغييرات تعكس محاولة لامتصاص الضغوط الداخلية والاستجابة – وإن ببطء – لدعوات الإصلاح التي أطلقها أكثر من 200 خبير اقتصادي و78 دبلوماسياً، إضافة إلى مثقفين ومفكرين داخل إيران وخارجها.
وفي رسالة واضحة المغزى، قال الأمين الجديد لمجلس الأمن القومي: “سنتفاوض مع أمريكا إذا كان ذلك وسيلة للحل لا غطاء للحرب”. هذا التصريح يعكس إدراكاً إيرانياً أن التفاوض ينبغي أن يكون مدخلاً لحل حقيقي، لا مجرد استهلاك للوقت أو تمهيداً لابتزاز جديد.
مع ذلك، فإن الاستجابة المحدودة لا تكفي لحل العقدة العميقة التي تكتنف حاضر ومستقبل الدولة. فالتراكمات التاريخية والذهنية الخاصة في رؤية الذات والعالم تجعل خيارات إيران أصعب من أي وقت مضى. وفي ظل ضغط الجغرافيا السياسية وتشابك العوامل الداخلية والخارجية، تجد إيران نفسها أمام معضلة بنيوية: فهي لا تستطيع الجمع بين الخيار التنموي – الاقتصادي والخيار العقائدي – الأيديولوجي، كما يلخص المفكر الإيراني محمود سريع القلم وعليها ان تدرس بواقعية ما يضمن بقاء واستقرار الدولة والامة كأولوية قصوى .