مقالات

لماذا نفتقر إلى مراكز استشراف؟

كتبت نرمين المفتي.. يسير العالم بسرعة الضوء أو الرقمنة نحو الغد، بينما تظل أغلب الدول العربية عالقة في تفاصيل الأمس، تدير حاضرها بردود الأفعال وتخشى أن تنظر إلى ما وراء الأفق.

وفي الوقت الذي تخصص فيه دول صغيرة في آسيا وأوروبا مراكز كاملة لتوقع التحولات القادمة في التكنولوجيا، الطاقة، المناخ والمجتمع، لا نكاد نجد في العالم العربي سوى محاولات محدودة، غالبا شكلية، لما يوصف بـ “الاستشراف”.

فما الذي يجعلنا نعجز عن بناء مؤسسات حقيقية للتفكير بالمستقبل؟ الاستشراف، أو ما يُعرف في الغرب بـ ( Futures studies – دراسات المستقبل)، وهو ليس للتنجيم أو التنبؤ الغيبي، بل أداة علمية لدراسة الاحتمالات ورسم السيناريوهات المستقبلية اعتمادا على تحليل البيانات والاتجاهات.

وتقوم مراكز الاستشراف في الدول المتقدمة بوضع تصورات لما قد يحدث خلال العقود المقبلة في مجالات الأمن، الاقتصاد، التعليم، التقنيات الحيوية والمناخ، وتساعد الحكومات والشركات على اتخاذ قرارات مبكرة تقيها الأزمات قبل وقوعها.

في الولايات المتحدة مثلا، تمتلك وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) قسما خاصا لتحليل “اتجاهات العالم حتى 2040”، وفي الاتحاد الأوروبي هناك “مركز الاستشراف والسياسات المستقبلية” ضمن المفوضية الأوروبية، أما كوريا الجنوبية وسنغافورة فأنشأتا كليات جامعية متخصصة في “علم المستقبل” يتخرج منها باحثون محترفون في هذا الحقل.

وليس العالم العربي غائبا تماما عن هذا الميدان؛ فقد قدم المفكر المغربي المهدي المنجرة نموذجا رائدا في “الاستشراف الحضاري” منذ سبعينيات القرن الماضي، حين حذر من اختلال العلاقة بين المعرفة والسلطة في العالم العربي، ودعا إلى بناء قدرة ذاتية على قراءة المستقبل بدل استيراده من الغرب.

كان يرى أن الأمم لا تقاس بما تملكه من الموارد، بل بما تملكه من رؤية استباقية لمصيرها. ومع ذلك، يبدو إرث المنجرة اليوم منسيا أو مهمشا، وكأن أحدا لم يواصل مشروعه بين من يرفعون شعار حماية مقدرات الشعوب العربية. فهل ما زال في العالم العربي من يؤمن بأن امتلاك المستقبل هو شكل آخر من أشكال التحرر؟

الجواب الأعمق يبدأ من بنية الحكم نفسها. فالأنظمة السياسية العربية، في معظمها، لا تقوم على مبدأ التخطيط الطويل المدى، بل على إدارة اللحظة وتثبيت الواقع.

إن فكرة الاستشراف تخيف السلطة لأنها تنطوي على احتمال التغيير. حين تفكر دولة ما في “مستقبلها”، فإنها تعترف ضمنا بأن شكلها الحالي قابل للتحول، وأن الأجيال القادمة قد تعيد تعريف أولوياتها.

لذا ففي مجتمعات تخشى التغيير وترى فيه تهديدا للاستقرار، يصبح الحديث عن المستقبل نوعا من الترف الفكري، أو خطرا سياسيا. إلى جانب ذلك، يعاني العالم العربي من غياب ثقافة البحث العلمي المؤسسي. فالمراكز البحثية الموجودة اليوم تعمل غالبا كمكاتب دراسات تنفيذية لا كمختبرات للعقل الوطني. تمويلها قليل جدا واستقلالها محدود، وأبحاثها موجهة لتلبية طلبات الوزارات أكثر مما توجه لصناعة السياسات العامة. الاستشراف يحتاج إلى عقل حر وبيانات مفتوحة ونقاش علني، وهي شروط لم تتوافر بعد في أغلب بيئاتنا الرسمية أو الأكاديمية.

ثم إن معضلة المعلومة تضرب في عمق هذه الإشكالية. فكيف يمكن لأي مركز استشراف أن يرسم خريطة المستقبل وهو لا يملك إحصاءات دقيقة عن الحاضر؟ في كثير من الدول العربية تعد البيانات الاقتصادية أو الديموغرافية “ أسرارا سيادية”، لا تنشر إلا بعد تنقيح وتجميل، إن نشرت أصلا، وغياب الشفافية يجعل من أي محاولة للتنبؤ مجرد تخمين، لا علما ولا تحليلا. وتضاف إلى كل ما سبق، ظاهرة الاعتماد على “الاستشراف المستورد”.

فصناع القرار العرب يفضلون الاطلاع على تقارير مستقبلية صادرة عن مؤسسات غربية مثل “راند” أو “بروكينغز”، بدل إنشاء مراكز وطنية تمتلك أدواتها الخاصة. هكذا يتحول “المستقبل العربي” إلى مادة تتكتب في واشنطن أو باريس، لتترجم لاحقا إلى خطط جاهزة تطبق دون فهم للسياق المحلي، وكأننا نستعير عيونا غريبة لنرى بها طريقنا، ثم نلوم العمى.

لكن المشكلة ليست فقط في الأنظمة أو النخب، بل في عمق المجتمع نفسه. فالثقافة العامة العربية لم تطور بعد علاقة صحية مع فكرة الزمن.

نحن نعيش في توازن غريب بين تقديس الماضي وخوف المستقبل، وبينهما يدار الحاضر بمنطق النجاة لا بمنطق البناء. الحروب وزرعت الانتكاسات والخيبات المتكرّرة في الوعي الجمعي شعورا بالعجز أمام الغد، حتى باتت كلمة “المستقبل” تستقبل أحيانا بالريبة أو السخرية.

إن غياب مراكز الاستشراف في العالم العربي ليس عيبا تقنيا يمكن إصلاحه بقرار وزاري، بل هو عرض لمعضلة أعمق وهي معضلة علاقتنا بالزمن وبالمعرفة وبالمسؤولية.

فالأمم التي تجرؤ على التفكير في المستقبل هي الأمم، التي تصالحت مع ماضيها وثقتها بحاضرها. أما حين يكون الماضي سجنا، والحاضر عبئا، والمستقبل تهديدا، فلن ينفعنا أي مركز استشراف، حتى لو حمل أجمل الأسماء.

ولعل أول خطوة نحو استعادة البوصلة هي أن نؤمن بأن المستقبل لا يتوقع فحسب، بل يصنع. وأن المجتمعات التي لا تفكر بالمستقبل، سيكتب لها الآخرون مستقبلها كما يشاؤون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى